[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أحببت فيك دموعي
[/size]أرخى الليل سدوله، وخيم على الكون السكون، وأفل لون السماء الأزرق، وأمعن الليل في الإظلام، حتى حانت تلك الساعة المباركة التي يتنزل فيها الرحمن إلى السماء الدنيا، نزولًا يليق بكماله وجلاله، حينها وثب ذلك الشاب الميمون من فراشه، ينزع عن عقله أغلال النوم، وغسل عن جوارحه الأدران بالطهور، ووقف بين يدي مولاه، متنعمًا بلذة الشعور بالتفرد والاصطفاء، فقد اختاره الله من بين جموع النائمين، ليوقفه بين يديه في ذلك المشهد السامق، وهنا سالت من عينيه دموع الخشوع، بعدما اقشعر جلده، وهو يتلقى ذلك العطاء الإلهي، فلما فرغ نظر من شرفته إلى السماء قائلًا: (أيها الليل، أحببت فيك دموعي).
في ظلمة الليل أنوار:
في ظلمة الليل للعبــاد أنوار *** منها شموس ومنها فيه أقمارُ
تسري قلوبهـم في ضوئهن إلى *** ذاك المقام ومولاهم لهم جارُ
أكرم بهم من رجال لو رأيتهم *** وللظلام على الأجفان أستارُ
الليل، معشوق الصالحين، وواحة المتقين، وسمر المجدين، بينهم وبينه وصال، وحديث ومقال، وآمال تلو آمال، يجمع عليهم شتات الهموم، فيتوحد الكيان للقاء القيوم، يستأنسون بسكونه الفصيح، يشقونه بالتهليل والتسبيح.
لم تلصق أجسادهم بالفرش لما أبصروا مشهد: {كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 17]، وهيج هممهم ثناء الرحمن على قومٍ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، ورغبوا في تلاحم قلوبهم مع ألسنتهم عندما علموا أن {ناشئة الليل هي أشد وطئًا وأقوم قيلًا}، ومادت بهم الأشواق عندما علموا أنه ((ينزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)) [متفق عليه]، استجابوا لنصيحة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - حين نادى فيهم: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر؛ فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن))
نحن الذين إذا أتانـــا سائل *** نوليه إحسانًا وحسن تكرم
ونقول في الأسحار هل من تائب *** مستغفر لينال خير المغنـم
إنها ساعات الأنوار، لا يأخذ حصته منها إلا من عرض نفسه لها وتيقظت روحه ليغمرها ذلك النور، قد وعاها البصري - رحمه الله - عندما سُئل: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهًا؟ فقال: (لأنه خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره).
دموع في إناء الليل:
أغلى ما في ساعات الليل: تلك الدموع التي تنساب في الليل، وإنها لتغسل أدران القلوب، وتخلص الروح من قيود الأرض، تزرع الإخلاص في الليل ليجني حصاده في عمل النهار، يرقى بها العبد ويسمو، ولا يعدل لذتها عنده شيء.
تلك الدموع التي تصنع العباد والفرسان، تلك الدموع التي جعلت شاعر الإسلام محمد إقبال يقبل علينا بحديثه: (كن مع من شئت في العلم والحكمة، ولكنك لا ترجع بطائل حتى تكون لك أنة في السحر)، وكان - رحمه الله - يرى أن تلك الدموع رأس مال العالم والحكيم والزاهد والمفكر، وكان من كلامه ما يترجم قدرها عنده إذا يناجي ربه: (خذ مني ما شئت يا رب، ولكن لا تسلبني اللذة بأنة السحر، ولا تحرمني نعيمها).
تلك الدموع التي أدرك عبد الله بن عمرو بن العاص معناها وقيمتها فقال: (لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف درهم).
قلت لليل كم بصدرك سر *** أنبئني ما أروع الأسحار
قال ما أضاء في ظلامي سر *** كدموع المنيب بالأسحار
إن دموع الليل إنما تنساب إذا خشع القلب ولان، ولانت الجلود واقشعرت، بعد هزة إيمانية يُتحف بها من تسامت همته وآثر مرضاة ربه، إنها فرار من عتاب {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].
أقمار الليل:
إنهم أقوام قد أضاءوا الليل بدموعهم، فكانوا لليل أقمارًا، ألهبتهم الخشية، وهدهدهم الرجاء، وحركهم الشوق، وأخذ القرآن بمجامع قلوبهم، وحامت أرواحهم حول آيات الكون، فذرفوا اللآليء، ذرفوا الدموع، دموع الليل.
أغلى الدموع:
إنها دموع الحبيب، خير من بكى، صاحب أغلى دموع سالت على وجنتين أو بلت الثرى، تُحدث حبيبته وزوجته في الدارين الصديقة بنت الصديق، عائشة - رضي الله عنها - عن بعض أحواله، فقد دخل عطاء وعبيد بن عمير على عائشة - رضي الله عنها -، فقال عبيد: حدثينا عن أعجب شيء رأيته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: ((يا عائشة، ذريني أتعبد لربي))، قلت: يا رسول الله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذن للصلاة [صلاة الصبح] فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا، لقد أنزل الله آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها))، ثم تلا قول الله - تعالى -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..}
الأسد الباكي:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة *** كليث غابات كريه المنظرة
هكذا كان يقول ليث الإسلام الذي أرعب ساحات الوغى، والذي كان مضرب الأمثال في القتال والنزال، لكنه مع هذه الشجاعة والقوة كانت له قوة من نوع آخر، قوة الدموع، التي حررته أكثر وأكثر من قيود الأرض، فعلا عليٌ على علياء القمم.
يصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية فيقول: (كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، ويتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له.
فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه، قابضًا على لحيته، يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه يقول للدنيا: إلي تعرضت، إلي تشوفت، هيهات هيهات غري غيري، قد طلقتك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية - رضي الله عنه - على لحيته ما يملكها وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن.
يحيون ليلهم بطاعة ربهم *** بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم *** مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم *** لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجوههم أثر السجود لربهم *** وبها أشعة نوره المتلالي
أبو تراب يصف الأصحاب
يا لروعة هذا الجيل القرآني الذي تخرج من مدرسة النبوة، وصُنعوا على عين أستاذها، كيف الحال لو صار ذرف الدموع في جوف الليل اتجاهًا عامًا وسمة أساسية لمجتمع، ها هو أبو تراب علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - يصف أحوال الأصحاب، أصحاب رسول الله صلى الله وسلم، فيقول علي:
(لقد رأيت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم أرَ أحدًا يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثًا غبرًا، وقد باتوا سجدًا أو قيامًا، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقعون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب العزي من طول سجودهم، إذا ذُكر الله هملت أعينهم حتى تبتل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفًا من العقاب ورجاء للثواب).
وكلهم بات بالقرآن مندمجًا *** كأنه الدم يسري في خلاياه
فالأذن سامعة والعين دامعة *** والروح خاشعة والقلب أواه
دموع الخلاص
سالت من أعين شاب أسرف على نفسه، خرجت مع زفرات الأسى والرغبة في النجاة، (مدمن مخدرات، وصاحب أسفار وشهوات، وكل ما يخطر لك على بال، هكذا قال، وقال: طلب مني في يوم من الأيام زميل لي في الدراسة أن أوصله إلى منزله، ونسي أو تناسى معي شريط في السيارة، قال: سمعت الشريط فتحدث عن الاعتماد على الله وحسن الصلة بالله وأنه لا حول ولا قوة للنفس الضعيفة إلا بالله، قال: فقلب كياني وهز وجداني، فقد كنت أعتمد في كل ضيق وشدة على المخدرات، حتى أصبحت هي ملاذي وملجأي، فمازلت مع نفسي أصارحها وألومها، كيف أترك الله القاهر القوي القادر، وآوي إلى هذا البلاء؟! أي نفس أنت أيتها النفس؟! مهينة حقيرة أسيرة لبضع حبيبات، أف ثم تف لك أيتها النفس.
يقول: ثم أجهشت بالبكاء، والندم والحسرة يأكلان قلبي، قال: فعاهدت الله من حينها أن أتوب، وأن أكون صادقًا في توبتي واعتمادي على الله، كنت أنتظر الساعات على أحر من الجمر متى تغيب الشمس، متى يأتي الليل لأخلو بربي وأرفع أكف الضراعة إليه.
قال: وفي تلك الليلة خرجت إلى الصحراء وقفت وحيدًا في ظلمة الليل، الجبال والأشجار من حولي كأنها أشباح، النجوم تزين السماء وكأنها تراقبني، استقبلت القبلة، كبرت وأخذت أدعو ربي دعاء المستغيث، أتوسل إليه بأسمائه الحسنى تارة، وبرحمته تارة، يقول: أخذت أبكي وأتضرع إليه وأشكو إليه حالي وما وصلت إليه، وألح عليه بأن يرفع عني هذا البلاء وأن يشفيني ويعافيني، اعترفت له بذنبي وضعفي وذلي وفقري، وحاجتي فلم أشعر بنفسي إلا والفجر قد اقترب، فرجعت إلى البيت وجلست أنتظر الصلاة.
فأخذتني إغفاءة فرأيت امرأة لم أرى في جمالها امرأة قط، وهي تقول لي: قم يا فلان، قم صل الفجر فأنت على خير، يقول: فقمت فزعًا، وقد أحسست أني لبست جلداً غير جلدي الأول، وشعرت بانشراح في صدري وكأنني ولدت من جديد، يقول: فلم أعرف المخدرات بعد ذلك اليوم، وها أنا أدخل امتحانات الجامعة ولأول مرة في حياتي معتمدًا على الله وحده، وكلي أمل ويقين بتوفيق الله لي، فقد ذقت حلاوة الدعاء ولذة الاستجابة ولن أرضى بها بديلًا).
الطريق إلى دموع الليل:
انهض بليل لركعات القيام *** إذا ما التحم أجفان الأنام
وفي أحضان المحراب فالزم *** دعاء من لم يكن يوما ينام
واخضع بقلبك والجوارح *** على أعتاب مولاك السلام
وضع أمامك زلات النهار *** وارج عفوًا بسمت الأيتام
ولذ بكلام الله تر قلبًك *** تزول عنه آثار الركام
تراه يلين بعد قساوة *** فيجلي الدمع أغلال الغمام
يا فتى الإسلام
دمعة كقطرة الندى، تجلي الغشاوة والصدى، تنير درب المسير، تحلي الطعم المرير، ترضي الإله القهار، ترفع عن قلبك الأستار، إن ذقت طعمها فلن تنساها، فترقب الليل حتى تلقاها، فإن أتاك الليل قلتَ: مرحى يا خشوعي، أيها الليل، أحببت فيك دموعي.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]